الجيوسياسة المتغيرة- تحالفات جديدة وولادة شرق أوسط جديد

المؤلف: كمال أوزتورك09.24.2025
الجيوسياسة المتغيرة- تحالفات جديدة وولادة شرق أوسط جديد

هلمّ بنا نتأمل قليلًا.. لنتجاوز الأفكار العتيقة، والتصورات الراسخة، والأحكام المسبقة، فقد ولجنا حقبة تتبدل فيها ملامح الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط والعالم قاطبةً.

وإذا لم ندرك كُنه هذا التحول، فسنتخلف عن ركب التاريخ، وسنُفَوِّتُ فرصةً ثمينةً للتأقلم مع هذه المتغيرات المتسارعة.

اسمحوا لي أن أُجَلِّيَ لكم هذه الجغرافيا السياسية المتبدلة.

الزخْم الذهبي

اندلعت شرارة الثورة في سوريا، وفي غضون أحدَ عشر يومًا فحسب، هوى نظام البعث الذي استمر حكمه زهاء واحد وستين عامًا، وفي تلك الآونة، بدأت جماعة كانت تُعَدُّ سابقًا "منظمة إرهابية" تُظهِرُ مقدرةً فائقةً وغير متوقعة على تسيير الأمور في دمشق، الأمر الذي أثار دهشة الجميع.

كيف أمكن لهذا أن يحدث؟

إثر زياراتي المتلاحقة إلى سوريا، كان هذا السؤال من أكثر الأسئلة التي وُجِّهَتْ إليَّ باستغرابٍ شديد.

يكمن سرُّ هذا الاستغراب في عدم الإلمام التام بالتحولات الجيوسياسية التي طرأت، فالجغرافيا السياسية قد تغيرت بالفعل.

ولكن كيف تجسد هذا التغيير بهذه السرعة الخاطفة؟

أطلق على هذا التحول مُصطلح "الزخْم الذهبي"، وهو يعني التقاء وتضافر عدة عوامل في آن واحد، مُحْدِثَةً موجةً عارمةً تُغَيِّرُ كل ما يحيط بها.

وبعبارة أكثر وضوحًا: تزامن تراجع نفوذ كل من روسيا، وإيران، وحزب الله، ونظام الأسد في الساحة الميدانية، مع التبدلات السياسية في الولايات المتحدة، وتفاقم العدوانية الإسرائيلية، مما أفضى إلى نشوء تحول جيوسياسي مفاجئ وغير مسبوق.

واغتنمت المعارضة السورية هذه الفرصة السانحة، وملأت الفراغ الناجم عن الزخم الذهبي ببراعة، مما أحدث تغييرًا جذريًا في مسار التاريخ في غضون أحد عشر يومًا فقط.

غزة كمحفز للتغيير

لو قيل ليحيى السنوار إن عمليته ستفضي إلى إسقاط نظام الأسد بدلًا من الإطاحة بحكومة نتنياهو، لما صدّق ذلك على الأرجح. وليس السنوار وحده، بل لا أعتقد أن أحدًا كان ليصدق ذلك بتاتًا.

إلا أن العملية الشهيرة التي وقعت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قد كشفت عن طاقة دفينة في المنطقة بأسلوب بالغ القوة، وكان تأثير الزلزال الذي أعقبها سببًا رئيسيًا في انهيار النظام في سوريا، وتبدل التحالفات في المنطقة بصورة مفاجئة، مما أسفر عن ظهور مشهد جديد كليًا.

وكأن انفجارًا قد وقع في لمحة بصر، فتراجعت الدول التي ساندت إيران، وروسيا، وحزب الله، ونظام الأسد بوتيرة متسارعة وغير متوقعة، ليحدث تغيير عميق في الوضع الراهن.

تركيا، التي كانت تواجه صعوبات جمة مع حكومة دمشق طوال خمسين عامًا، أبرمت تحالفًا وطيدًا مع الإدارة الجديدة. كما تقاربت السعودية والإمارات من تركيا، وبدأتا في إقامة علاقات متينة مع حكومة دمشق.

وبين عشيّةٍ وضُحاها، وفد وفدٌ من الحكومة اللبنانية إلى أنقرة، وأعلن عن بداية عهد جديد، كما شرع الاتحاد الأوروبي في إيفاد وفود إلى دمشق على نحو متواصل، وبدأت الاتصالات مع الحكومة السورية الجديدة. وحتى دونالد ترامب أقرّ بأن تركيا هي الدولة المحورية في المرحلة الجديدة في سوريا.

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن التحول في الجغرافيا السياسية لن يتوقف عند هذا الحد. وإذا تفطنت الدول في المنطقة لهذا التغيير، فسيكون بمقدورها الانتقال بسلاسة والتكيف مع الوضع المستجد، وإلا فقد تتحول المنطقة إلى ساحة لتغييرات جديدة في الأنظمة.

لقد أدى الشعور بالقلق الناجم عن تأثير العدوان الإسرائيلي والأميركي على خمس دول إلى تسريع وتيرة التغيير في المنطقة.

وأدرك الجميع أن الجلوس على "مائدة إبراهيم" والتفاوض مع إسرائيل حول "وجبة" جديدة لم يعد كافيًا لتحقيق الأهداف المرجوة، وعندها بات جليًا وجوب إنشاء موائد جديدة، وإقامة تحالفات مختلفة، لإنشاء درع حماية جديد في وجه الاحتلال والعدوان.

الجيوسياسة الجديدة ستؤدي إلى تحالفات جديدة

لقد استوعب بعض المثقفين في المنطقة حقيقة جلية، وأعتقد أن من يديرون الدول قد أدركوا ذلك أيضًا الآن: إذا لم تضع الدول في المنطقة حدًا لخلافاتها وتتبنى تحالفات فيما بينها، فإنها ستواجه في المستقبل إما الاحتلال أو الدمار المحتوم.

لقد رأينا بأم أعيننا مصير من وَثِقُوا بروسيا في سوريا، ومن وَثِقُوا بأميركا في العراق، ليجدوا أنفسهم في دولة مُقَسَّمةٍ ومُفْتَقِدَةٍ للأمن والاستقرار.

وأولئك الذين تشبثوا بأوهام "مائدة إبراهيم" (اتفاقات إبراهيم) مع إسرائيل، شاهدوا بأعينهم الخراب والموت يدنُوان منهم.

جميع الدول الإسلامية التي انخرطت في صراعات طائفية، وتنازع على السلطة والنفوذ، قد تضررت أيما ضرر جراء ذلك. ودُمرت مدنها، وتشتت شعوبها، وتحولت إلى حالة من الفوضى العارمة.

لابد أن الحكومات قد استوعبت الآن هذه الحقيقة المرة.

والآن، يتعين عليهم أن يتوحدوا حول هذه الأفكار الأربعة الأساسية:

  1. تجاوز جميع الانقسامات والخلافات، وبناء تحالفات جديدة بين الدول الإسلامية.
  2. عدم السماح للدول من خارج المنطقة بالتدخل في الشؤون الداخلية، أو استغلال الموارد الطبيعية الكامنة تحت الأرض وفوقها.
  3. احترام سيادة الدول وحدودها.
  4. على كل حكومة أن توفر لشعبها الرخاء والحرية والعدالة، وأن تضمن له مشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحكم.

تحقيقًا لهذه الغاية، يجب على الدول الإسلامية في المنطقة أن تنشئ أنظمة جديدة قادرة على تبادل الخبرات في مجالات التنمية، والاقتصاد، والصناعات الدفاعية، والحكم الرشيد، والبنية التحتية المتطورة.

وسوف نشهد بأعيننا قريبًا مؤسسات بديلة تعبر عن الجغرافيا السياسية المستجدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة